روى حنظلة قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوعظنا موعظة رقت لها القلوب، وذرفت منها العيون، وعرفنا أنفسنا، ورجعت إلى أهلي فدنت مني المرأة، وجرى بيننا من حديث الدنيا، فنسيت ما كنا عليه عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذنا الدنيا ثم تذكرت ما كنا فيه فقلت في نفسي: قد نافقت فقد تحول عني ما كنت فيه من الخوف والرقة فخرجت وجعلت أنادي، نافق حنظلة...
فاستقبلني أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال: كلا، لم ينافق حنظلة، فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: لو أنكم تكونون على كل حال إلى آخر الحديث.
والحديث يقرر أن دوام الحال التي يكون عليها الإنسان وقت الوعظ والإرشاد غير ممكن، لأن الإنسان طبع على الغفلة والنسيان.
فلو أن الصحابة الكرام يبقون مع أبنائهم وأزواجهم وظروف معاشهم المختلفة على ما كانوا عليه في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وجد ورقة، وتأثر، لصافحتهم الملائكة بأكفهم، وزارتهم في بيوتهم، ولكنهم كانوا إذا غشوا مجلس الرسول -صلى الله عليه وسلم- رقت قلوبهم، وذرفت عيونهم، وكانوا من أهل الآخرة، وإذ فارقوه أعجبتهم الدنيا ولاعبوا النساء والأولاد.
وظن حنظلة بهذا قد نافق لأنه يمثل دورين دورا مع الرسول ودورا مع الأهل والولد، ولكن الرسول طمأنه وأعمله أن من طبيعة الإنسان أن يرق قلبه، وتتأثر نفسه، وتدمع عينه إذ شاهد سلطان الحق، ولكن الدوام على ذلك غير ميسور إذا انصرف إلى نفسه العاجزة، الضعيفة التي هي من معدن الآفات ومحل المهلكات.
وهذه التجربة نعيشها كل يوم تقريبا فنحن عندما نشيع أحد الأقارب والأصدقاء إلى قبره نشعر بالحزن من أعماقنا، ونرى الدنيا كأنها قد لبست ثوب حداد، وما إن ننفض أيدينا من دفنه حتى نعود إلى عاداتنا من مزاح وضحك!
ونمر بمشهد من مشاهد البؤس فيهزنا من أعماقنا وقد يذرف أحدنا دموعا من وقع الألم في النفس، ولكن ما إن نفتح أعيننا على مناظر للطبيعة أو مشاهد للحياة، حتى ننسى ذلك المشهد، ويمحى من ذاكرتنا.
ونقرأ مقالا أو قصة مثيرة فنتأثر ونشعر بضيق الحياة وبؤسها، فتنقبض نفوسنا وتتجهم الحياة في وجهنا، ثم سرعان ما يزول ذلك عندما نغير التفكير أو يطرأ ما يشغلنا عن ذلك!!16